شهر رمضان شهر نزول القرآن والكتب السماوية
عن واثلة بن الأسقع- رضي الله عنه- عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان): رواه الطبراني في الكبير عن واثلة، وأحمد في مسنده وابن عساكر، وحسنه الألباني صحيح الجامع رقم(1509).
قال تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ..."[البقرة: من الآية185]، وقال تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ"[القدر:1]، وقال تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ"[الدخان: من الآية3].
عن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: "أنزل القرآن جملة من الذكر" أي: اللوح المحفوظ، في ليلة أربع وعشرين من رمضان، وهي عند ابن عباس ليلة القدر والوتر من العشر الأواخر، وكما يقول ابن تيمية: قد يكون باعتبار ما مضى من الشهر أو باعتبار ما بقي، فجعل في بيت العزة] أ.هـ.
وعنه أيضاً قال: "أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا، جملة واحدة، ثم فُرِّق في السنين بعد"، قال: وتلا ابن عباس – رضي الله عنهما- هذه الآية: "فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ"[الواقعة:75]، قال: نزل مفرقاً.
وعن سعيد بن جبير – رحمه الله-: (نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان، فجعل في سماء الدنيا).
قال ابن جرير الطبري – رحمه الله-: (نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان، ثم أنزل إلى محمد – صلى الله عليه وسلم- على ما أراد الله إنزاله إليه). تفسير الطبري(2/114-115).
وقال سفيان بن عيينة- رحمه الله- أنزل في فضله – أي رمضان القرآن، انظر التبصرة لابن الجوزي(2/73).
منزلة القرآن ومكانته
أخي الكريم: (القرآن كتاب هذه الأمة الخالد، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، فأنشأها النشأة، وبدلها من بعد خوفها أمناً، ومكَّن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي بها صارت أمة، ولم تكن من قبل شيئاً، وهي بدون هذه المقومات ليست أمة، وليس لها مكان في الأرض، ولا ذكر في السماء، فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن) الظلال(171-172).
نعم، (ولكن ستظل هناك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل فيه حسناًً، ونستحضر أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية ذات وجود حقيقي، ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة، وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك) من وحي القلم (1/183).
فالقرآن نعمة من الله عظيمة، ومنة منه جسيمة تستلزم منا الشكر ليل نهار، ونكون بذلك مقصرين غاية التقصير.
فالقرآن نور يضيء لنا الطريق في الدنيا والآخرة، والقرآن فيه الهدى والصلاح، فبه تطمئن القلوب، وتزكو النفوس، وتعلو الهمم وترتقي، وتشفى الصدور من عللها، وتسلم الأرواح والأبدان من أسقامها.
من قال به حكم، ومن حكم به عدل، ومن سار على نهجه هُدي إلى صراط مستقيم، ومن أعرض عنه قُيِّض له شيطاناً فهو له قرين، قال تعالى: "وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ"[الزخرف:36].
(وأسوأ ما يصنعه قرين بقرين أن يصده على السبيل الواحدة القاصرة ثم لا يدعه يفيق، أو يتبين الضلال فيتوب، إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم، حتى تفاجئهم النهاية وهم سادرون، هنا يفيقون كما يفيق المخمور، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال والعذاب كامل لا تخففه الشركة، ولا يتقاسمه الشركان فيهون) الظلال
(5/3189-3190).
قال تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طـه:124].
(إن الحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع، إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه، ضنك الحيرة والقلق، ضنك الحرص والحذر: الحرص على ما في اليد، والحذر من الفوت، ضنك الجري وراء بارق المطالع والحسرة على كل ما يفوت.
لقد أسرف وخسر كل من أعرض عن ذكر الله، فألقى بالهدى من بين يديه وهو أنفس ثراء وذخر) الظلال(4/2355).
فيا أخي الحبيب: ليكن لك نصيب مع القرآن في هذا الشهر الذي أنزل فيه، وليكن لك في رسولك – صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، ففي الصحيحين عن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله – صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة" البخاري (25، 1902- 3220-3554-4997)، ومسلم(7/68) (5964).
حال السلف مع القرآن في رمضان
قال ابن رجب: (دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان) لطائف المعارف(189).
قلت: وفي الحديث دليل أيضاً على استحباب الصدقة في رمضان، وزيادة البذل والعطاء والجود والكرم في ذلك الشهر الفضيل، وذلك لشرف الزمان، والله أعلم.
قال ابن رجب: (كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة في كل ست ليال) لطائف المعارف(191).
(كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان يختم في غير رمضان في كل ست ليال) حلية الأولياء(2/163).
(كان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة) حلية الأولياء(2/338) ولطائف المعارف (191).
(وكان النخعي يفعل مثل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث) لطائف المعارف(191).
قال ربيع بن سليمان: (كان محمد بن إدريس الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة، ما منها شيء إلا في صلاة) المصدر السابق.
وأخبار القوم كثيرة لكن فيما ذكر كغاية لمن أراد الهداية.
فيا أخي الكريم: لا تكن من الغافلين في هذا الشهر عن قراءة القرآن، فكن من الذاكرين له آناء الليل وأطراف النهار.
واعلم أخي الكريم: أن الصيام والقرآن يشفعان لك يوم القيامة، كما صح ذلك عن النبي –صلى الله عليه وسلم- فعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان": رواه أحمد والطبراني في (الكبير)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم(3882).
فيا من فرط في شهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط بئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟! لطائف المعارف(194).
ويلٌ لمن شفعاؤه خصماؤه *** والصور في يوم القيامة ينفخ.
هذا والله أعلم، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.