ولم تكن توني تقصد ما قالته لأن الرجل كان مسنا جدا ولن يعيش طويلا , بالأضافة الى ذلك- برغم ان الأخذ بالثأر يعتبر في نظر الغرب تصرفا وحشيا , كما يعتبر القتل عملا لا مبرر له – الا انه في نظر الآخرين هنا يعتبر طريقة مقبولة للحياة وهو عادة ثابتة منذ فترة طويلة وربما يرجع تاريخها الى تقاليد الزواج الغريبة التي كانت قائمة في القرى النائية المتخلفة ....إن هذا الرجل يؤمن بقوة بالأخذ بالثار, الا انه من الواضح ان عقله متأثر بوفاة شقيقته , ولذلك فأنه يؤمن تماما ان واجبه يحتم عليه تنفيذ الإنتقام ...
وتدخلت المرأة قائلة في يأس :
" انسة فريمان ...هل تغادرين الجزيرة إذا دفعنا لك تعويضا ؟ "
" كلا !"
قالتها رغم انها بدأت تقتنع قليلا بضرورة مغادرتها الجزيرة , الا انها لم تستطع مقاومة رغبتها في إثارة قلق هؤلاء الناس لمجرد معاقبتهم على تصرفاتهم الجافة إزاءها , واستطردت تقول :
" سأكون آمنة تماما هنا عندما أتوجه الى الشرطة "
والتقت عينا الأم والأبن في نظرة سريعة , وكان الرجل الكهل يستند الى المائدة , شاحب الوجه وأنفاسه متقطعة , ومع ذلك كان قادرا على ان يقول بالأنكليزية :
" الشرطة لا تستطيع حراستك طوال الوقت , وسوف أتربص بك دائما . هذا ما يحدث عادة في القرية عندما يعتزم شخص قتل آخر , إنه يختيئ في منعطف , او بين الأشجار وعندما تأتيه الفرصة يوجه ضربته "
ونظر داروس في ضيق الى جده وقال :
" دعك من هذا السخف , الأخذ بالثأر عمل غير متحضر "
" ربما كان ذلك صحيحا في رأيك يا داروس , ولكنني لست من جيلك انني اتبع العادة كما اعرفها , وكما تتصل بإحساس الواجب "
وبرغم ان صوته بدأ يهدأ لكنه كان يعبّر عن تصميمه على تنفيذ ما يعتقد بشدة .
وظهرت علامات العبوس على وجه داروس , وبدأت والدته متوترة جدا وهي تقول :
" انه يعني ما يقول .... يا داروس .. ما الذي تستطيع فعله..؟ "
واستدارت الى توني دون ان تنتظر ردا منه وقالت لها :
" انسة فريمان , ارجو ان تحددي الثمن الذي تريدينه وسوف ندفعه ...أي ثمن .."
وأحست توني بالمتعة عندما رأت الحفيد ووالدته يعانيان من حالة قلق شديدة ومع ذلك قررت ان تعيد الهدوء الى المرأة فقالت :
" سأعود الى انكلترا ... وعليكم ان تدفعوا ...."
وسكتت عندما رأت داروس يهز رأسه بشدة وقد بدا بريق العناد الشديد في عينيه وقال مقاطعا :
" لن ندفع شيئا ... لن نسمح لأنفسنا بأن نستغل بسبب هذه العقيدة الغبية التي يتمسك بها جدي , ولم يكن ينبغي لوالدتي ان تعرض عليك نقودا "
ولم تعد توني مستعدة للتنازل عن أي شئ , ومرة اخرى هددت بالذهاب الى الشرطة وقالت في حدة :
" لم يعد امامنا الا الشرطة ..... او النقود ....."
وقال لها في احتقار شديد :
" انت تستغلين الموقف عن عمد "
وتدخلت الأم وقالت باليونانية :
" داروس ... لا تجادل الفتاة , اعطها ما تريده "
" لن استسلم للأبتزاز , جدي ماذا بك ؟ "
كان الرجل الكهل يضع يده على رأسه وبدا عليه الأرهاق نفسه الذي بدا على توني نتيجة الصراع بينهما . وقال الرجل وهو يغادر الغرفة :
" انا ذاهب لأستريح ..."
ثم قالت الوالدة :
" ادفع للفتاة يا داروس , ولننته من هذه المسألة تماما "
" لن اسمح لأي امرأة ان تطالبني بشئ , كنت غير حكيمة عندما ذكرت النقود "
" ولكن جدك يا داروس يعني ما يقول "
أومأ ابنها برأسه آليا وبدا عابسا وهو يفكر
" لا بد ان تكون هناك وسيلة لأنقاذه من نفسه "
" ليس امامك الا ان توافق على ان تدفع للفتاة "
ورد في ضيق قائلا :
" ذلك ضد مبادئي ولا بد ان تكون هناك طريقة اخرى "
ثم نظر الى توني وقال بحدة :
" يجب ان ترحلي ...."
" ولكنني لست راحلة ...."
وتنهد في حنق وهو يقول لوالدته :
" من الواضح انها لاتريد التعاون بدون ان ندفع لها "
" عليك ان تتجاوز عن مبادئك "
وضاقت عيناه الداكنتان وقال مستنكرا :
" وهل تتوقعين ان اخضع لمطالبها !؟ "
كان صوته جادا وهز رأسه وهو يتكلم , ولكن عندما رمقته توني بنظرة جانبية لاحظت توتر وجهه , كان يحدق في الفضاء ويعبس من أفكاره واستمرت توني تراقبه وتساءلت .. ترى ماهي السمات التي ورثها عن جده الكهل المتعطش لدماء ؟ إنه لم يرث شهوة القتل , لكن قسوته كانت واضحة . وبعد ان ظل فترة مستغرقا في التفكير قال أخيرا في صوت مكبوت :
" كم تريدين آنسة فريمان؟ "
وتنهدت أمه في ارتياح كأنها ازاحت عن صدرها عبئا ثقيلا .
وأوشكت توني ان ترد عليه قائلة انها لاتريد سوى أجرة سفرها فقط ولكن شيطانا تقمصها فجأة فرفعت رأسها وأجابت في تحد :
" لا أريد شيئا ....انا ذاهبة الى الشرطة .."
ونظر داروس في عبوس اليها :
" ولكنك كنت تنوين طلب المال "
" غيرت رايي ..فما الذي يدعوني الى التخلي عن وظيفتي ؟
وضاقت عيناه على نحو خطير , وتساءلت ترى ما الذي يريد ان يفعله . وقال :
" وهل هذا هو رأيك الأخير ؟ هل انت مصممة على التوجه الى الشرطة؟
وترددت توني بعض الشئ وساءلت نفسها : ما الذي يجعلها تتمادى الى هذا الحد ؟ وكيف تستطيع الآن ان تتراجع ؟
وعندما لمحت ومضة الأمل على وجهه بسبب تأخرها في الرد قالت بسرعة :
" انني مصممة تماما "
قالت ذلك وهي تفكر هؤلاء السفلة , ماذا يتصورونها ؟ ان رأي رجل مثل داروس لا يمكن ان يؤثر عليها إطلاقا .
وانفجرت الأم باكية وهي تقول :
" يا عزيزي انها غلطتك . انت عقدت الأمور كانت مستعدة لمناقشة الدفع . ليس هناك الآن شئ نستطيع فعله "
وصمتت فجأة عندما دخل والدها الغرفة . كانت عيناه تحدقان في تهديد . وقال :
" فكرت الآن في شئ . ان ذلك القاتل له عم يعيش في جزيرة كريت . اكتشفت ذلك وانا اقوم بتحرياتي عنها ! وهكذا فانها اذا توجهت الى انكلترا سوف اقتل عمها ....."
واستدار الى داروس وهو يضحك واستطرد قائلا :
" نعم سوف اقتله , او اقتل احد ابنائه , لديه ابنة جميلة جدا هذا هو ما سمعته "
وانحنى وهو ينظر ساخرا الى توني قائلا :
" هذا صحيح أليس كذلك ؟ ان ابنته الصغرى جميلة جدا !"
وقالت توني وقد بدأ قلبها يخفق بشدة :
" لا تستطيع ان تزج عمي في مثل هذه المسألة "
لكن الرجل المسن اختفى من الغرفة , وعندما صمتت توني كان الصوت الوحيد الظاهر في الغرفة هو صوت بكاء والدة داروس .
واستغرق كل من داروس وتوني في التفكير وتساءلت توني ما الذي يمكن ان تفعله الآن ؟
كانت نيتها في بادئ الأمر ان تتعاون معهم , وان تعود الى بلدها , ولكن هذا التطور الجديد عقّد الموقف بصورة خطيرة . فلو بقيت هنا تتعرض حياتها للخطر , واذا رحلت من الممكن ان يتعرض عمها او احد افراد اسرته للموت .
" ورده قايين "